ما تشهده منطقتنا من أحداث وثورات وتغيرات , يكاد الإعلام يكون فيها اللاعب الأهم لا بل والأساسي , قواعد جديدة وضعتها وفرضتها وسائل الاتصال الجديدة على وسائل الإعلام "المرئية خاصة " لتجعلها احد أهم أسلحة المواجهة في الصراعات القائمة في منطقتنا ,التي كانت ولازالت الأنظمة الدكتاتورية فيها تحاول عزل نفسها وشعوبها عن العالم الخارجي ,لتكتشف هذه الشعوب بين ليلة وضحاها أنها تملك سلاح أقوى من كل الاسلحه التي خنقتها بها أنظمتها "المقيتة"لسنوات طويلة ,وبالمقابل اكتشفت هذه الأنظمة إن ما تملكه من إعلام يكاد يقف عاجزا عن المواجهة.
سوريا أيضا لم تكن بمنأى عن ما تشهده المنطقة من ثورات شعبية عارمة تحاول الاطاحه بالأنظمة الدكتاتورية ذات "النفس الماراثوني" . والغموض الذي يلف المشهد السوري وثورته تحديدا مرده إلى القبضة الأمنية الحديدية التي يمسك بها النظام بزمام الأمور في البلد,ولا يسمح للإعلام الغير السوري بتغطية الأحداث , مع غياب إعلام سوري مستقل وجميع القنوات السورية مملوكه للدولة وتدار من قبل السلطة , لهذا قام النظام بتجنيد قنواته كافه للوقوف بوجه الإعلام الخارجي وبوجه الشعب السوري جنبا إلى جنب مع القوات الأمنية والجيش لتعمل هذه المنظومة "الأمنية الإعلامية" على إجهاض الثورة , في تجربة هي فاشلة إلى حد ألان خاصة في الجانب الإعلامي منها .
المشكلة في الإعلام الحكومي إن بنيته لا تمثل إعلاما وحسب , بل هو خليط متجانس بالقوة بين الإعلام والدعاية, فهو الواجهة الإعلانية للسلطة دائما يحاول صقل صورة القائد وحاشيته بمناسبة ودونها , ولا يحمل أو يعترف بالشراكة التي تجمع الوسيلة الإعلامية مع المتلقي لان المتلقي عند الإعلام الحكومي يختلف عما هو عليه في الإعلام المستقل , الأخير جعل المتلقي عنده شريك حتى في المحتوى الإعلامي من خلال ترك هامش للمتلقي لكي يقرر موقفه ,في عملية يمكن أن نسميها "إعادة قراءة للمحتوى" بينما الإعلام الحكومي هو من يقوم بالتفكير ويقدم المعلومة جاهزة للمتلقي والذي ينبغي علية أن لا يشكك فيها وكأنه يقول " هذه هي الحقيقة فقط ودونها كل شيء بعيد عنها "
لم يعد باستطاعة أي وسيله إعلامية أن تدعي أنها تملك الحقيقة كاملة لان القرب إلى الحقيقة هو باختصار" التقرب إلى الشارع و الجماهير" ,كلما كانت وسيله الإعلام قريبه إلى الشارع فهي قريبه إلى الحقيقة أكثر, "عندما تسمعني وتشاهدني سوف أسمعك وأشاهدك" وهذا ما تفتقر إليه وسائل الإعلام الحكومي والرسمي بشكل عام , لان قربها الدائم من السلطة والمواقع الرسمية في ألدولة جعلها بعيدة عن الشارع والجماهير , هذا التحدي هو الذي جعل الإعلام الحكومي السوري عاجزا عن مواجهة الإعلام الخارجي الممثل بقنوات "الجزيرة والعربية وbbc" فهي الأقرب إلى الشارع السوري من القنوات السورية نفسها لأنها أتاحت للمواطن السوري أن يساهم حتى بما تعرضه من أخبار وتقارير عن الثورة ,ولان هذه القنوات تعاملت بذكاء لما تملكه من خبرة طويلة وناجحة فحولت المواجهة بين الإعلام الحكومي السوري وبين الشعب السوري بشكل غير مباشر .
المواجهة التي فرضت على الإعلام الحكومي السوري الذي كان غارقا عبر سنواته الطويلة في دهاليز الحكومة والسلطة ويتعامل بفوقية مع المواطن لأنه كان مجرد أداة بيد السلطة ينقل نشاطات الحكومة ويساهم في تعزيز مكانة النظام والقائد الأوحد الذي لايخطئ أبدا وكل مايقوله في خطاباته لاينبغي التشكك في جزئياته .
وبالتالي فان الثقة هي مفقودة دائما وعلى طول الخط بين الإعلام الحكومي والمتلقي "المواطن" لسبب بسيط وهو أن الإعلام الحكومي أصلا لا يثق بالمواطن لان الثقة هي بالسلطة فقط , فكيف سيثق المواطن بالإعلام الحكومي إذا , لهذا تابعنا كيف أن الإعلام السوري تنقصه الشجاعة في مواجهة الحقائق بسبب نقص الثقة بينه وبين الشارع ,على عكس الإعلام الخارجي الذي حاز على ثقة المواطن العربي والسوري خاصة من خلال العلاقة الصحيحة و الطويلة التي تربط هذه القنوات بالفرد , ونفس الكلام انطبق على الدول التي شهدت ثورات سابقا مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وكما تابعنا فان الإعلام الرسمي لهذه الدول جميعا وقف عاجزا بمواجهة الإعلام الخارجي لنفس السبب .
محتوى الإعلام السوري خلال فترة الأزمة التي يمر بها لاتتعدى كونها حفلة دفاع عن النفس وعن النظام ولهذا التجأ إلى التفاصيل لينطلق من خلالها إلى العموميات وهنا كان الخطأ الأخر والكبير الذي اقترفه الإعلام السوري فهو مثلا يفند الفيديوهات التي يصورها الشباب السوري لأعمال القمع التي يقوم بها النظام والتي يتم بثها عبر الإعلام الخارجي , يفندها لكي يبرهن أن الوضع في سوريا هو طبيعي في حين انه لاينقل الوضع الطبيعي الذي يتحدث عنه , المواطن ليس لديه مشكلة بمن صور الفيديو وكيف صور وكيف وصل إلى وسائل الإعلام الخارجي المهم أن الوضع غير طبيعي وهناك قمع للمواطن والتظاهرات بشكل أو بأخر .
هذا التخبط يعززه أكثر التشنج الواضح في الإعلام السوري حيث أن كل فترات البث يغلب عليها الأناشيد الحماسية والعبارات النارية ومراسيم تشيع شهداء الأمن , وبين كل هذا يطل عليك المذيع ليقول لك أن الوضع طبيعي جدا في سوريا "إذا كان الوضع طبيعي كن طبيعيا وعفويا اذا" ,
إنها من صفات الإعلام الحكومي والرسمي الاستهزاء بعقلية المتلقي في حين أن المتلقي في الإعلام الغير الرسمي أو كما أسميناه الخارجي هو من يقوم ويساهم بوضع المحتوى الذي يعنيه ويعني قضيته وهمومه وهذا ما جعل المفاهيم تتغير بين القوي والضعيف , الحاكم والمحكوم , الظالم والمظلوم , الأنظمة المستبدة والشعوب المقهورة .
لهذا من المستحيل أن يكسب الإعلام الحكومي ثقة المتلقي خلال فترة الأزمة فقط لان المتلقي لم يعد مجرد أداة "ملأتها متى شئت وأفرغتها متى شئت" ,الإعلام الحكومي أهمل المتلقي وخسر ثقته لعشرات السنين , ويحاول ألان أن يكسبه خلال أيام معدودة , الحكومات الدكتاتورية ليست وحدها ضحية ثورات الشعوب بل إنها أيضا نهاية مايسمى الإعلام الحكومي أو الرسمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق